هو عبد الله بن أبي قحافة عثمان التيمي القرشي، أفضل هذه الأمة بعد نبيِّها، وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومؤنسه في الغار، وصدِّيقه الأكبر، ووزيره الأحزم.
جهوده في خدمة حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
كان أول من احتاط في قبول الأخبار؛ فقد روى أصحاب السنن عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال جاءت الجدة إلى أبى بكر الصديق تسأله ميراثها، فقال: ما لكِ في كتاب الله تعالى شيء، وما علمتُ لكِ في سنة نبي الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا فارجعي حتى أسأل الناس [يعني أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ].
فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدسَ. فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه لها أبو بكر.
فلم يكتفِ أبو بكر رضي الله تعالى برواية المغيرة بن شعبة وهو صحابي جليل ثقة، وإنما استظهر بثقة آخر ليطمئن قلبُه إلى إسناد الرواية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو بذلك يؤسس لمنهجٍ في النقل والرواية يقوم على التثبت والاحتياط وعدم التساهل.
وقد ذكر الإمام الذهبي في (تذكرة الحفاظ) أن أبا بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - حدَّثَ رجلاً حديثًا، فاستفهمه الرجل إياه، [أي: كأن الرجل استغرب كلام الصدِّيق واستنكره]، فقال أبو بكر: "هو كما حدثتُك، أي أرض تُقِلُّني إذا أنا قلت ما لم أعلم؟ ".
وهذه الأخبار تظهر لنا بجلاء كيف كان الصديق - رضي الله تعالى عنه - يتحرى في نقل العلم، فلم يكن يروي إلا ما تيقن من ثبوته، ولا يتيح لنفسه الفرصة للتدخل برأيه أو فهمه الخاص، وهذه أيضًا إحدى المعالم التي أسسها في منهج النقل والرواية.
والذي حمل الصديق على التحري في الرواية هو الخوف من الوعيد اللاحق بمن ينسِب شيئًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقله؛ فقد روى الإمام أحمد في (مسنده) بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن كذبًا علي ليس ككذبٍ على أحدٍ، ألا ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار".
وهذا المنهج الذي أسَّسه الصدِّيق - رضي الله تعالى عنه - القائمُ على التحري والتثبت في النقل والرواية عن رسول الله - صلى عليه وسلم - كان خليقًا بأن يتبعَه وينسجَ على مِنواله مَن جاء بعده من الرواة والحفاظ والمحدثين.
إذن فالصدق الذي تميز به الصديق رضي الله تعالى عنه هو الشرط الأول للاشتغال برواية حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبدونه يُعَرِّض المشتغل برواية الحديث نفسه للوعيد. قال الإمام الحافظ الذهبي في كتابه (تذكرة الحفاظ) ناصحًا المشتغلين بعلم الحديث وروايته: ".. .
فحُقَّ على المحدث أن يتورع فيما يؤديه، وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته، ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكي نقلة الأخبار ويجرحهم جِهبِذا إلا بإدمان الطلب والفحص عن هذا الشأن، وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم، مع التقوى والدين المتين والإنصاف، والتردد إلى مجالس العلماء والتحري والإتقان وإلا تفعل:
فدع عنك الكتابة لست منها ولو سوَّدت وجهك بالمداد!
قال الله تعالى عز وجل: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) فإن آنست يا هذا من نفسك فهمًا وصدقًا ودينًا وورعًا، وإلا فلا تَتَعَنَّ، وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأى ولمذهب فبالله لا تَتْعب.
وإن عرفتَ أنك مخلِّطٌ مخبِّطٌ مهمِلٌ لحدود الله - فأرحنا منك! فبعد قليل ينكشف البهرج وينكبُّ الزغل ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله! فقد نصحتُك، فعلم الحديث صَلِفٌ. فأين علم الحديث؟ وأين أهله؟ كدتُ أن لا أراهم إلا في كتاب أو تحت تراب!! ".
وهكذا كان الصدِّيق رضي الله تعالى عنه رأسَ الصادقين والحفاظ في الأمة والذي إليه المنتهى في التحري فيما يحدث به عن الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - حتى وافته المنية لثمانٍ بقَين من شهر جمادى الآخرة من سنة ثلاث عشرة للهجرة النبوية، وله ثلاث وستون سنة.
المصدر: موقع إسلام ويب